1) الأدب المقارن وعلاقة الجزء الثاني به:
لقد عرف مصطلح الأدب المقارن في فرنسا أول مرة منذ عام 1827، بفضل فيلمان
الأستاذ بجامعة السوربون، الذي أخذ منذ هذا التاريخ يستخدمه في محاضراته.
ولقد ظهرت منذ ذلك الحين دراسات بعنوان تاريخ الأدب المقارن، أو التاريخ
الأدبي المقارن.
وهناك علاقة بين النقد الأدبي الحديث وبين الأدب المقارن إلا أن الأول يسعى
للكشف عن القيم الفنية الكامنة في الأعمال الأدبية الإبداعية ويفسرها،
ولايستطيع الناقد الأدبي الوصول إلى غايته إلا إذا كشف عن المنابع
والمؤثرات التي انتقلت إلى الكاتب أو الشاعر من الآداب الأخرى ولما كانت
الأعمال الأدبية الإبداعية بطبيعتها الفنية ليست تعبيراً مباشراً، وإنما
يغلب عليها طابع الرمز، فإن هذا الناقد أو ذاك، يبيح لنفسه أن يعيد صياغة
النص في لغة نقدية وبذلك يفك رموزه، وبهذا يصبح العمل النقدي عملاً أدبياً
آخر، وبذلك فإن الذين يتشبثون بمصطلح "الأدب المقارن" يرون في الدراسات
المقارنة عملاً إبداعياً يصح أن نسميه "الأدب المقارن".
وإذا ماانتقلنا من العام إلى الخاص، فإننا نجد أن العلاقات الأدبية العربية
والروسية قوية، منذ أقدم الأزمنة. فلقد وصل العرب إلى المناطق الجنوبية
لروسيا التي شكلت فيما بعد جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وكانت أبجدية بعض
هذه الشعوب هي الأبجدية العربية، وأصبحت الثقافة العربية جزءاً لايتجزأ من
ثقافة تلك البلاد، التي شكلت جسراً لعبور الثقافة العربية إلى روسيا نفسها،
وإذا لم يصل إليها العرب إلا أنهم، وصلوا إلى البلاد، التي فيما بعد أصبحت
جزءاً من روسيا، قال شاعر الهند رابندرانات طاغور في عام 1908" ....
فعلينا أن نجاهد كي ننظر في عمل كل مؤلف بوصفه كلاً، وننظر في هذا الكل
بوصفه جزءاً من خلق الإنسان العالمي، وننظر إلى هذا الروح العالمي في
مظاهره من خلال الأدب العالمي. وهذا هو ما آن لنا الآن أن نفعله".
أما في العصر الحديث فلقد انعكس الأمر. فبعد أن كانت الأمة العربية هي التي
تبدع وتصدر إبداعها لشعوب الأرض قاطبة، فهي التي وصلت إلى إسبانيا، ونقلت
تراثها الغني عبر اسبانيا إلى الشعوب الأوروبية ومن اسبانيا انتقل الفكر
العربي إلى أمريكا اللاتينيه.
أصبحنا نستعين بخبرات الأمم الأخرى الأدبية، فنحن عرفنا فن القصة القصيرة
عند الكاتب الروسي انطون تشيخوف (1860- 1904) وعرفنا الفن المسرحي بعد
حملة نابليون بونابرت على مصر 1798-1801، وبعد الاصلاحات الجذرية التي قام
بها حاكم مصر آنذاك محمد علي منذ عام 1805 وبعد عودة الموفدين من الدول
الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا. وعرفنا الرواية بعد أن اطلعنا على الرواية
الأوروبية.
والآن لدينا أدباء نستطيع أن نفخر بهم. يأتي في مقدمتهم الروائي العربي
نجيب محفوظ الذي حصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1988، والذي حاز على
جائزة الدولة التقديرية.
وإننا ببحثنا هذا، نحاول أن نساهم مساهمة متواضعة في إغناء الأدب المقارن
العربي، الذي أصبح من أهم الاختصاصات الأدبية في المرحلة الأخيرة.
وأريد أن انتقل إلى صلب الموضوع، وهو هل وجود تشابه بين أفكار تولستوي
الغيبية والدينية وأفكار بعض المفكرين العرب مثل جبران خليل جبران 1883-
1931 وميخائيل نعيمه 1889- 1988 وأمين الريحاني ومصطفى لطفي المنفلوطي،
والياس فرحات، ومظفر النواب، وعبد المعين الملوحي، وغيرهم. هل يعد التشابه
من أبواب الأدب المقارن؟
يجيبنا عن هذا التساؤل الدكتور محمد غنيمي هلال الذي يعتبر بحق، من أكبر
علماء الأدب المقارن في وطننا العربي حتى يومنا الحاضر، يكتب الدكتور غنيمي
في كتابه الشهير "الأدب المقارن" "مدلول الأدب المقارن تاريخي، ذلك أنه
يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها الكثيرة
المعقدة، في حاضرها أو في ماضيها، ومالهذه الصلات من تأثير أو تأثر، أيا
كانت مظاهر ذلك التأثير أو التأثر به سواء تعلقت بالأصول الفنية العامة
للأجناس والمذاهب أو التيارات الفكرية، أو اتصلت بطبيعة الموضوعات والمواقف
والأشخاص التي تعالج أو تحاكي في الأدب، أو كانت تمس مسائل الصياغة الفنية
والأفكار الجزئية في العمل الأدبي...
إذن لقد فهم الدكتور غنيمي الأدب المقارن فهماً واسعاً، ومن خلال هذا الفهم
نعتبر الدراسة المقدمة تدخل في أحد أبواب الأدب المقارن.
فرح أنطون وليف تولستوي:
كان الكاتب العربي فرح أنطون (1874-1922) أحد الكتاب الذي تقبلوا نقد
تولستوي للكنيسة. يرى فرح أنطون أن الكنيسة في الأزمنة الغابرة وفي الوقت
الحاضر تعلم الناس القناعة، ولقد نقل إلى اللغة العربية من اللغة الفرنسية
كتاب المفكر الفرنسي المشهور رينان "حياة يسوع" ومن المعروف أن الكاتب
الفرنسي المذكور نظر إلى حياة السيد المسيح نظرة واقعيةً. ولذلك انتقد
الشيخ محمد عبده ( 1849-1905) مفتي الديارة المصرية، رئيس جامعة الأزهر،
فرح أنطون لترجمته "حياة يسوع" لرينان، ولنشاطاته الأخرى.
لقد عبر فرح أنطون عن آرائه الدينية في مؤلفاته المختلفة، ففي كتابه "ابن
رشد وفلسفته" (1903) يؤكد فرح أنطون أن الهام في الدين هو الجوهر وليس
الطقوس. كما أكد في مقالته حول عمر الخيام أن عمر الخيام كان حكيماً فمن
المعروف أن عمر الخيام كان سكيراً، ومنحلاً.
ويعبر كليم - أحد أبطال قصته "الوحش، الوحش، الوحش، أو سياحة في أرز لبنان"
(1903) عن أفكار فرح أنطون. ولقد أكدت آنّا دالينينا أن هذه الرواية تعكس
آراء تولستوي: "يرى فرح انطون مثله مثل تولستوي أن السعادة لأصحاب النفوس
القوية والمستقيمة والمخلصة" (128ص186) وكتبت المستشرقة السالفة الذكر:
"ويرى فرح أنطون أن محاربة الشر يحب أن تتم بوسائل طيبة مثل الوداعة
والتسامح، وهنا أيضا يمكن أن نرى صدى أفكار تولستوي" (128ص 185) .
ففي روايته التاريخية "اورشليم الجديدة أو فتح العرب بيت المقدس" (1904)
يعبر فرح أنطون عن فكرته بأن على الإنسان محاربة الشر بكل الوسائل ماعدا
وسائل الشر والعنف، لأن العمل الطيب يولد عملاً طيباً في حين أن العمل
الشرير يولد عملاً شريراً أي بعمل الخير ينتشر الخير وبالشر ينتشر الشر.
ويطالب الإنسان بتلبية الحاجات الروحية وبعد الاهتمام بالحاجات المادية
والجسدية، ويرى فرح أنطون أن اللَّه يطالب الإنسان بعمل الخير، وهنا يمكن
أن نرى أصداء أفكار تولستوي الذي انتقد بعض جوانب حياة رجال الدين.
على الرغم من أن أحداث رواية " أورشليم الجديدة أو فتح العرب بيت المقدس"
تجري في القرن السابع، إلا أن فرح أنطون أراد أن ينتقد المجتمع المعاصر.
فالراهب ميخائيل في رواية "أورشليم الجديدة أو فتح العرب بيت المقدس" يعتقد
بأن الكنيسة تخطئ عندما تعلم الناس القناعة وعدم الاهتمام بالحياة الدنيا
والاهتمام فقط بالحياة الآخرة. وينادي الراهب ميخائيل بضرورة بناء المجتمع
العادل حيث يعيش فيه الناس بالمحبة وكأنهم في أسرة واحدة.
يرى المستشرق أ.ي. شيفمن الذي كان يعمل في متحف تولستوي الأدبي في موسكو
أنّ رواية "أورشليم الجديدة أو فتح العرب بيت المقدس" تذكرنا برواية
تولستوي "الحرب والسلام" :
" ومن هنا نرى في إبداع فرح أنطون الاهتمام بالأحداث التاريخية الكبيرة
التي تعكس حركة الجماهير الشعبية، ومشاعر أفراد عاديين. والرواية مفعمة
بالأفكار الفلسفية وبذلك فهي تشبه رواية "الحرب والسلام" (139ص393) .
أمين
الريحاني وتولستوي:
كرس أمين الريحاني إحدى مقالاته لتولستوي كما ذكرنا في الفصل الأول. وعبر
عن آرائه الدينية في أعماله المختلفة. فهي تتفق مع آراء تولستوي، في كتابه
"الريحانيات"، حيث نشر مقالته عن تولستوي نشر أيضاً مقالة بعنوان" خطاب
المسيح (1910) يقول إن اتباع المسيح لايطبقون تعاليمه..
ويقول السيد المسيح في خطابه: "فيا ملوك الزمان وياسادة الأرض. لقد بشرت
منذ تسعة عشر قرنا بالسلام على الأرض والرجاء الصالح لبني البشر. فهل
تفهمون بالسلام الحروب. وهل تظهرون رجاءكم الصالح بمدافعكم القتالة
ومدرعاتكم الهائلة! (22ص145) .
وفي شهر شباط من عام 1900 في الذكرى السنوية الأولى لتأسيس الجمعية
المارونية في مدينة نيويورك ألقى أمين الريحاني (1876-1940) كلمة نادى
فيها بعدم التفرقة الطائفية وبالصبر والتسامح وبالمحبة.
وفي الوقت نفسه الذي حرمت فيه الكنيسة في روسيا تولستوي لعن فيه أحد
الأساقفة الريحاني وحرمه من لقاء المؤمنين، وكان الريحاني مؤمناً ومن أنصار
الإيمان السليم الحقيقي فكان يؤمن باللَّه ويرى أن الإيمان هو سلوكية
الإنسان.
وفي بعض أعمال الريحاني الإبداعية يرى ضرورة مساعدة الشعب الفقير الذي
يعاني الكثير من ضائقة العيش.
كان أمين الريحاني يناضل من أجل الإيمان الحقيقي الذي يتلخص في المحبة
والعمل الإنساني وتقديم المساعدة للآخرين. وبذلك فإن نظرة الريحاني إلى
الدين تتفق ونظرة ليف تولستوي. فلقد صور ريبن الرسام الروسي الشهير تولستوي
وهو يصلي في الغابة. فهذه اللوحة تدل على إيمان تولستوي بأنه يمكن الصلاة
في الغابة، وكذلك كان يؤمن الريحاني الذي يرى أن اللهَّ هو المحبة.
والدين هو الاستقامة والاخلاص والصبر والمعاملة. من آمن بالمحبة آمن
باللَّه وهذه هي أعلى درجات الإيمان.
ولكن الفرق الأساسي بين أمين الريحاني وبين ليف تولستوي هو أن الريحاني لم
يكن متناقضاً مع ذاته مثل تولستوي ولم تكن في تعاليمه نقاط ضعف فهو يؤمن
بمبدأ تطبيق العنف من أجل الوصول إلى الخير. فهو من أنصار الثورة. كتب في
عام 1910 قصيدة بعنوان "الثورة"، نادى بقصيدته بالثورة وبالنصر، ومع هذا
فقلد كتب عنه الاكاديمي كراتشوفسكي: "بأن المسائل الروحية والأخلاقية تهمه
أكثر من المسائل الاجتماعية" (161ص139) .
ولقد كتبت الدكتورة آنّا دالينينا في مقدمة كتاب "النثر العربي المعاصر"
وفي كتاب "النثر الرومانسي العربي" أن الريحاني يطالب بتحسين العالم عن
طريق تحسين أخلاق الأفراد وعن طريق التعليم. ويذكرنا هذا بمواعظ تولستوي
(124ص9)
TOPIC :
تولسـتوي ودوســتيفسكي فـي الأدب العربـيّ - د.ممدوح أبو الوي SOURCE :
Linguistic Studies ** http://languages.forumactif.org/